فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}
لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه.
وقد تقدّم معنى الخلق في غير موضع.
{ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقناكم نُطفًا ثم صوّرناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى خلقنا آدم ثم صوّرناكم في ظهره.
وقال الأخفش: {ثم} بمعنى الواو.
وقيل: المعنى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم عليه السَّلام، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم؛ على التقديم والتأخير.
وقيل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم؛ ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر.
{ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} راجع إليه أيضًا.
كما يُقال: نحن قتلناكم؛ أي قتلنا سيدكم.
{ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير؛ عن ابن عباس أيضًا.
وقيل: المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحوّاء؛ فآدم من التراب وحوّاء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك.
فالمعنى: ولقد خلقنا أبوَيْكم ثم صوّرناهما؛ قاله الحسن.
وقيل: المعنى خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق.
هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح.
قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال.
يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صوّرهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد.
ويقوّي هذا {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172].
والحديث: «أنه أخرجهم أمثال الذَّرِّ فأخذ عليهم الميثاق» وقيل: ثم للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، ثم صَوّرناكم أي في الأرحام.
قال النحاس: هذا صحيح عن ابن عباس.
قلت: كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يَعْضُده التنزيل؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني آدم.
وقال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1].
ثم قال: {جَعَلْنَاهُ} أي جعلنا نسله وذريته {نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 13] الآية.
فآدم خُلِق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صُوِّروا في أرحام الأُمهات بعد أن خُلقوا فيها وفي أصلاب الآباء.
وقد تقدّم في أوّل سورة الأنعام أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتُرْبَة؛ فتأمله.
وقال هنا: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} وقال في آخر الحشر: {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24].
فذكر التصوير بعد البَرء.
وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وقيل: معنى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا الأرواح أوّلًا ثم صوّرنا الأشباح آخرًا.
قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} استثناء من غير الجنس.
وقيل: من الجنس.
وقد اختلف العلماء: هل كان من الملائكة أم لا؛ كما سبق بيانه في البقرة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} يعني: ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صورًا مخلوقة.
فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته؟
قلت: يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر.
وقيل في معنى الآية: ولقد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني ذريته، وهذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكانه في خلقه خلق من خرج من صلبه؛ وقيل: إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده.
والمعنى: ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود، وقيل: بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين، وقيل: بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة.
وقوله تعالى: {فسجدوا} يعني الملائكة {إلا إبليس} يعني: فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس {لم يكن من الساجدين} يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول: إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأمورًا بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}
لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاصٍ فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجود فامتثل من امتثل وامتنع من امتنع، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما يأتي خبره فنبّه أولًا على موضع الاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّ الخطاب عام لجميع بني آدم ويكون على قوله ثم قلنا ما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكون الترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون {ثم} في {ثم قلنا} للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية ومنهم من جعل {ثم} للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع، وقيل الخطاب في الأولى لآدم وفي الثانية لذرّيته فتحصل المهلة بينهما {وثم} الثالثة لترتيب الأخبار، وروى هذا العوفي عن ابن عباس.
وقيل: خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيب واقعًا على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم، فقيل: الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصوير فروي الحارث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلاب الرجل ثم صوّرناكم في أرحام النساء، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش، وقال ابن السائب خلقناكم نطفًا في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام، وقال معمّر بن راشد حاكيًا عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر {وثم} على هذه الأقوال في قوله: {ثم قلنا} للترتيب في الأخبار، وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبو يعلى في المعتمد ويكون {ثمّ} في {ثم قلنا} لترتيب الأخبار، وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها، وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد به الغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله: {وإذ نّجيناكم من آل فرعون} {فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} {وإذ قتلتم نفسًا} هو خطاب لمن كان بحضرة الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم.
ومنه قول الشاعر:
إذا افتخرت يومًا تميم بقوسها ** وزادت على ما وطّدت من مناقب

فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم ** عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

وهذه الوقعة كانت لآبائهم وتقدّم تفسير {قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس} في سورة البقرة فأغنى عن إعادته وقوله: {لم يكن من السّاجدين} جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله: {أبى واستكبر} بعد قوله: {إلا إبليس} في البقرة. اهـ.

.قال ابن كثير:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} الآية [الحجر: 28- 30]، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرًا سويا ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة.
وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير: أن المراد بذلك كله آدم، عليه السلام.
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} قال: خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء.
رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا: أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم: الذرية.
وقال الربيع بن أنس، والسُّدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي: خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.
وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} فدل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] والمراد: آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [عليه السلام] ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12- 13] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم. اهـ.